من الأصول إلي الفروع المصريون ومغامرتهم الروحية علي ضفتي النيـــــــــــــل


   ‬بقلم‮:‬ جمال الغيطاني
‮>> ‬خلال ثورة ‮٩١٩١‬،‮ ‬وفيما تلاها انبعثت طاقة روحية جبارة في الشعب المصري انعكست في كل مناهج الحياة،‮ ‬الفن،‮ ‬الاقتصاد،‮ ‬الأدب،‮ ‬العمارة،‮ ‬النهضة بمفهومها العام‮. ‬وكان أهم سماتها العودة إلي الأصول مع الاحتفاظ بالفروع‮.‬
مصر أقدم شعب في العالم،‮ ‬وهو الأصل في الاجتهاد الإنساني من أجل فهم الكون‮. ‬علي ضفتي النيل توصل المصريون إلي‮ ‬الكتابة‮. ‬واكتشفوا ان هذا الكون لم يوجد صدفة،‮ ‬ثمة قانون ينظم حركة الوجود،‮ ‬ادركوا وجود الخالق إكتشافان أساسيان يعدان أساسا لكل الاجتهادات الفكرية والدينية التي ظهرت فيما تلا ذلك من مراحل حتي يومنا هذا‮.‬
في ثورة ‮٩١٩١‬،‮ ‬جرت محاولة كبري لاكتشاف مصر بكل مكوناتها وظلت الطاقة الروحية مستمرة إلي منتصف القرن الماضي،‮ ‬كان كل شيء واضحا ربما لوجود حزب قوي يقود الثورة‮ »‬الوفد‮« ‬وزعامة ـ كاريزمية تدل وتقود‮ »‬سعد زغلول‮«.‬
في ثورة يناير تفجرت طاقة روحية ملهمة،‮ ‬لكنها لم تجد الإطار الذي يوجهها ولا الزعامات التي ترشدها حتي الآن لظروف تكونها والتمهيد لها ومساراتها مما يعد نقلة في تاريخ الإنسانية‮. ‬وتجربة جديدة بكل المقاييس‮. ‬هذه التجربة لها ايجابياتها التي تتمثل في قيامها بدون إطار أو قيادة متمثلة في شخص‮. ‬ونفس هذه الايجابية تمثل سلبية خاصة في مرحلة ما بعد الثورة‮. ‬إذ تعددت القوي التي تحاول إدارة هذه الطاقة‮. ‬ولأن التيارات الدينية المتشددة الأكثر تنظيما ودعما‮ »‬خاصة الوهابيين الذين نطلق عليهم السلفيين‮«. ‬فقد بدا وجه مصر علي‮ ‬غير حقيقته،‮ ‬بدا في مجمله متعصبا،‮ ‬رافضا للآخر،‮ ‬التكوين الروحي لمصر انجب وأدي إلي ثورة يناير،‮ ‬إلي هذا الحدث الذي أصبح معلما في تاريخ الإنسانية‮. ‬ويبدو ان أصحاب الحدث لم يدركوا قيمته بعد‮. ‬التكوين المصري أعمق وأشمل،‮ ‬وقد شغلني أمره طويلا‮. ‬خاصة في كتابي‮ »‬نزول النقطة‮« ‬الذي صدر في كتاب اليوم منذ عامين،‮ ‬وأقدم بعض فصوله إلي القارئ بعد إضافات من وحي الأحداث الأخيرة مستلهما فيها روح مصر وتكوينها باعتبارها أصل الإنسانية‮. >>‬
عندما أتم والدي رحلته في الحياة،‮ ‬تمدد فوق الفراش،‮ ‬موجود وغير موجود،‮ ‬جاء الأقارب لإلقاء نظرة أخيرة،‮ ‬عليه،‮ ‬وقف أكبرهم سنا إلي جواره،‮ ‬انحني حتي قارب فمه الأذن التي لم تعد تسمع،‮ ‬غيرأنه نطق بعبارات مؤثرة،‮ ‬ناداه باسمه كأنه حي،‮ ‬ثم طلب منه ألا يشعر بالوحدة،‮ ‬كل هؤلاء جاءوا من‮ ‬أجله،‮ ‬ولأنه صالح،‮ ‬أدي رسالته في الحياة كما يجب،‮ ‬فلن يلقي مخاطر في الطريق،‮ ‬وإذا واجه بعضها فليتل بعض آيات القرآن الكريم‮.‬
رغم أن الجمل من القرآن،‮ ‬من التراث الإسلامي،‮ ‬إلا أن هذا الطقس الذي مارسه أقدم أقاربنا عمراً‮ ‬يمت إلي معتقدات مصرية عتيقة،‮ ‬إلي ثقافة مصرية‮ ‬غائرة،‮ ‬يمارسها المصريون علي اختلاف معتقداتهم وهم لا يعون أنهم يستمرون بثقافة الأجداد،‮ ‬تماما كما ينطقون مئات الألفاظ في لغة تعاملهم اليومية وهم لا يعلمون أنها كلمات مصرية قديمة،‮ ‬تدخل في تراكيب خاصة أضفت الخصوصية علي العامية المصرية المتفردة في إطار اللغة العربية الفصحي‮. ‬أحيانا أتوقف في الريف المصري،‮ ‬خاصة في الجنوب الذي ولدت فيه قرب الأقصر وأبيدوس‮. ‬أمام مشهد معين لقرية،‮ ‬مزرعة،‮ ‬لطائر مرفرف،‮ ‬إلي قرص الشمس عند المغيب أو الشروق،‮ ‬إلي عودة الفلاحين من الحقول إلي البيوت،‮ ‬ألغي بعقلي بعض وسائل العصر‮. ‬مثل أعمدة الإنارة،‮ ‬أو العربات إذا تصادف وجودها،‮ ‬عندئذ لا أري أي تناقض بين مشاهد الحياة المرسومة علي جدران المقابر‮. ‬وتلك التي تطالعني،‮ ‬أشم رائحة الخبيز في البيوت،‮ ‬خاصة العيش الشمسي،‮ ‬طريقة الخبز المصرية القديمة،‮ ‬أن يوضع العجين في النهار ليرضع من الكون،‮ ‬من أشعة الشمس‮. ‬أتنسم رائحة‮  ‬الحياة عند نضجه وخروجه من الفرن،‮ ‬أثق أنها نفس الرائحة التي عرفها الأجداد القدامي منذ آلاف الأعوام،‮ ‬مازال متحف تورينو يحتفظ بثمانية أرغفة من مقبرة كا‮. ‬انه عين الخبز الذي فتحت عيني عليه في صعيد مصر‮. ‬أتأمل وسائل حفظ الطعام،‮ ‬بدءا من الجبن،‮ ‬المش،‮ ‬السمك‮ »‬الملوحة والفسيخ‮« ‬والملوخية الناشفة،‮ ‬ماتزال تعد بنفس الطرق التي كانت متبعة،‮ ‬بل ان شكل الجلسة حول‮ »‬الطبلية‮« ‬وآداب الطعام لا يختلفان كثيرا عن الرسم‮. ‬ذات صباح كنت في طريقي إلي مكتبي،‮ ‬بمؤسسة‮ »‬أخبار اليوم‮« ‬الصحفية حيث تقع في واحد من أقدم أحياء القاهرة،‮ ‬بولاق،‮ ‬فجأة رأيت مجموعة من النساء يخرجن من حارة جانبية،‮ ‬كلهن متشحات بالسواد،‮ ‬إحداهن شابة،‮ ‬فارهة الطول،‮ ‬تتوسط الصف الأول،‮ ‬وجهها ملطخ بالنيلة الزرقاء،‮ ‬علامة الحزن المصري القديم،‮ ‬تقوم بحركات تشبه الرقص،‮ ‬لكنه رقص ملتاع حزين،‮ ‬يداها تتحركان إلي أعلي،‮ ‬في تلك اللحظة رأيت عين المشهد الشهير للنائحات في مقبرة راموزا بالبر الغربي بالأقصر،‮ ‬إنه مشهد يتكرر كثيراً‮ ‬في المقابر التي وصلت إلينا‮. ‬إنه التعبير الإنساني عن الحزن الأبدي،‮ ‬الحزن الأقسي نتيجة الفقر،‮ ‬الفقراء،‮ ‬الحزن المؤلم،‮ ‬بسببه رفض المصريون القدماء الموت،‮ ‬اعتبروه بداية لحياة الأبدية،‮ ‬أطلقوا عليه الخروج إلي النهار‮. ‬إذ يتحد الإنسان بعد موته بضوء النجوم،‮ ‬في مصر العليا عندما يري الناس نيزكا يهوي ليلا،‮ ‬يقولون‮: ‬إنه روح مغضوب عليها،‮ ‬مطرودة من راحة الأبد،‮ ‬أو إنها روح إنسان تخرج في تلك اللحظة،‮ ‬ثمة صلة بين الكون الفسيح ومظاهره‮. ‬وبين الإنسان،‮ ‬بين أدق تفاصيل الحياة وجميع مظاهر الطبيعة‮. ‬خلال تنقلي بين الحاضر الذي أعيشه،‮ ‬والماضي الذي أقرأ عنه‮. ‬عرفت العنصرين الأساسيين اللذين يحكمان الحياة المصرية وثقافتها،‮ ‬إنهما الاستمرارية والتغير،‮ ‬عنصران متضادان،‮ ‬متلازمان،‮ ‬متفاعلان،‮ ‬يشكلان جوهر الحالة التي أدت إلي تأسيس أول مفردات الحضارة الإنسانية،‮ ‬وأقدم مفرداتها‮. ‬نهر النيل بلاشك هو الشريان الرئيسي لتلك الحياة التي سعت إلي ضفتيه،‮ ‬إنه الإنسان الذي جفف المستنقعات،‮ ‬وتوصل إلي واحد من أعظم اكتشافات البشرية،‮ ‬الزراعة،‮ ‬السيطرة علي النهر الذي يشكل خطراً‮ ‬داهماً‮ ‬إذا زاد فيضانه،‮ ‬وإذا شح أيضا،‮ ‬عندما عرفت تفاصيل تتعلق بالزراعة‮. ‬بوضع البذور،‮ ‬تنقية التربة،‮ ‬سقايتها،‮ ‬رعايتها،‮ ‬مقاومة آفاتها‮. ‬تساءلت‮: ‬كم من السنين اقتضي الأمر حتي توصل الإنسان إلي معرفة ذلك؟ لماذا في تلك المنطقة التي تلي الشلالات عند أسوان وحتي حدود البر شمالا والتقائها بموج البحر،‮ ‬تلك المنطقة التي نسميها مصر،‮ ‬أو كيميت في الزمن القديم أي الأرض السوداء؟،‮ ‬كم من الزمن توصل خلاله الإنسان إلي سر الزراعة،‮ ‬إلي ابتكار حروف الكتابة،‮ ‬ترميز الواقع؟ لماذا لم تظهر تلك الحضارة في مناطق أخري من النهر من منابعه الأثيوبية أو البحيراتية حتي الشلالات؟ يتعلق الأمر بالبشر الذين عاشوا في تلك المنطقة،‮ ‬إنهم المصريون الذين عاشوا فوق هذه الأرض،‮ ‬عانوا،‮ ‬وتأملوا حركة الكون،‮ ‬من شروق وغروب،‮ ‬تدفق مياه النهر،‮ ‬نزول النقطة،‮ ‬أول نقطة ماء في الفيضان،‮ ‬وصولها صيفا مع ظهور النجم سويتي،‮ ‬نزول النقطة يمكن اعتباره البداية للتكوين الروحي والثقافي للقوم،‮ ‬لا تعنيني جذورهم البعيدة،‮ ‬وتلك الافتراضات التي يطرحها بعض المتخصصين حول المناطق التي قدموا منها إلي الوادي،‮ ‬ما يعنيني إنجازهم الإنساني الذي هو ثقافي وروحي بالأساس،‮ ‬الثقافة بمعني محاولة فهم الكون،‮ ‬الموقف من الحياة‮. ‬كما تتدفق مياه النيل،‮ ‬مرة تفيض هادرة،‮ ‬ومرة تشحب منحسرة،‮ ‬كذلك البشر،‮ ‬لم تنقطع المياه من المجري قط،‮ ‬ولم يتوقف توالي الإنسان،‮ ‬استمرارية الوجود،‮ ‬لم ينقطع وجود المصريين،‮ ‬وفد عليهم بشر آخرون،‮ ‬جري استيعاب وتغير،‮ ‬متغيرات تمت في هدوء،‮ ‬وأخري عنيفة،‮ ‬مؤلمة،‮ ‬في إحدي مراحله طال اللغة والمعتقد،‮ ‬والنظام المستقر منذ آلاف السنين،‮ ‬هزم المصريون ماديا وروحيا عندما قبلوا الإسكندر الأكبر باعتباره ابن الإله آمون،‮ ‬ونصبه الكهنة في واحة سيوة فرعونا،‮ ‬لم يكن الفراعنة من خارج حدود كيميت قط،‮ ‬بدأ العصر البطلمي،‮ ‬لكن ما استوعبت مصر الحكام الجدد،‮ ‬اعتنقوا رؤيتها تماما عندما نقترب من معبد حتحور في دندرة،‮ ‬أو حورس في ادفو،‮ ‬لن نشك في أنه معبد فرعوني بكل مظهره للمسافر والمكنون‮. ‬وإن لم يعرف الزائر الخط الهيروغليفي فلن يدرك أبدا أن من بني المعبد هم البطالمة ذوو الأصول الأجنبية‮. ‬عانت مصر من الغزو الفارسي،‮ ‬والأشوري،‮ ‬وقبائل البدو في الصحاري المحيطة،‮ ‬في مرحلة أخري أصبحت مصر ولاية تابعة للإمبراطورية الرومانية،‮ ‬وجري تغير روحي عميق عندما اعتنقت مصر المسيحية التي أري أنها إعادة صياغة للدين المصري ذاته،‮ ‬وعندما اعتنق المصريون الديانة الوافدة أضافوا رؤيتهم هم،‮ ‬وما تزال سائدة وراسخة رغم عصور الاضطهاد في العصر الروماني‮. ‬كل متغير عميق يطرأ يطال السطح،‮ ‬وربما ينفذ قليلا،‮ ‬لكن بأساليب شتي يبدأ القوم في الحفاظ علي المكنون القديم،‮ ‬هناك في العمق،‮ ‬حيث لا يمكن لغزاة جدد أن يطولوه،‮ ‬أو يجتثوه،‮ ‬هذا المضمون يستمر في تفاصيل الحياة اليومية،‮ ‬الطعام،‮ ‬مفرداته،‮ ‬طريقة طهيه،‮ ‬تقديمه،‮ ‬الآداب المرتبطة به،‮ ‬في الموسيقي،‮ ‬في الأدب الشعبي،‮ ‬في المعتقدات المتوارثة عبر المرأة خاصة الأم التي تلقنها للأبناء مع حليب الرضاع،‮ ‬في العمارة‮. ‬من اللحظات التي أطيل التأمل فيها،‮ ‬أتمني أن أشهد ما جري خلالها،‮ ‬تلك الليلة في معبد إيزيس بجزيرة فيلة بأقصي الجنوب،‮ ‬آخر معبد ظلت الشعائر تقام فيه لعبادة رمز الأمومة والأنوثة والتضحية،‮ ‬الإلهة ايزيس،‮ ‬التي أصبحت عند المصريين فيما بعد‮ »‬العذراء‮« ‬ثم السيدة‮ »‬زينب‮« ‬شقيقة الإمام الحسين‮. ‬أصدر الإمبراطور الروماني أوامره بإبطال الشعائر المصرية في سائر أنحاء مصر،‮ ‬في تلك الليلة تليت الصلوات من أجل الألهة ايزيس،‮ ‬وترددت الترانيم،‮ ‬أغلق المعبد،‮ ‬لكن‮.. ‬هل انتهت عبادة ايزيس فعلا؟ هل تواري رمز الأمومة والتضحية،‮ ‬الأم والأخت والزوجة الحنون،‮ ‬أم أنه اتخذ بعداً‮ ‬اشسع،‮ ‬أكثر رحابة؟
‮<<<‬
عندما دخل العرب مصر في القرن السابع الميلادي،‮ ‬كانت مصر منهكة،‮ ‬مثخنة بجراحها لكنها لم تكن خاوية،‮ ‬كان المصريون يعتنقون المسيحية طبقا لرؤية الكنيسة المصرية القبطية،‮ ‬كان الماضي البعيد مبهما،‮ ‬غامضا،‮ ‬اختفت دلالات أول ابجدية في التاريخ،‮ »‬الهيلوغرفية‮« ‬المقدسة،‮ ‬أصبحت مستمرة في اللغة القبطية التي امتزجت قليلا واليونانية وأخذت ابجديتها،‮ ‬أما العمائر الهائلة من معابد ومنشآت ومقابر فقد أختفت دلالاتها،‮ ‬تحولت إلي اطلال،‮ ‬بل انها تحولت إلي خرائب بأيدي المصريين أنفسهم،‮ ‬وهذا أغرب ما وقفت عليه من مظاهر الاستمرارية والتغير‮.‬
عندما اعتنق المصريون المسيحية الوافدة اعتبروا الديانة القديمة معادية،‮ ‬بدأ بعضهم تحطيم رموزها،‮ ‬هذا ما نراه في الأجزاء السفلية من معبد أبيدوس علي سبيل المثال،‮ ‬نري اللوحات الجدارية مشوهة،‮ ‬خاصة العيون والأنوف،‮ ‬هذا معتقد مصري قديم،‮ ‬فعندما كان المصري يرسم شخصا ويقدم علي تسميل عينيه أو تشويههما فهذا يعني بالنسبة له حرمان الشخص نفسه من النظر والشم،‮ ‬أي الرؤية والتنفس،‮ ‬أي إعدامه‮. ‬هكذا بنفس الثقافة المصرية التي ورثها المؤمنون بالدين الجديد يدمرون تراث الأجداد باعتبارهم كفارا‮ ‬غير مؤمنين،‮ ‬ثم يكتب المؤمنون الجدد تحت ما قاموا به أنهم أقدموا علي ذلك تقربا إلي الرب‮. ‬عندما‮ ‬غزا العرب مصر وجاءوا لنشر الدين الجديد،‮ ‬الإسلام الذي يحرم التصوير والنحت،‮ ‬رغم ذلك فإنهم لم يلحقوا أذي كبيراً‮ ‬بالآثار القائمة،‮ ‬رغم اعتبارهم لها أصناما وثنية،‮ ‬لماذا؟ ربما تقربا لأهل البلد في البداية،‮ ‬وربما لسريان وقوة الأسطورة،‮ ‬عندما كنت طفلا صغيرا في قريتي جهينة بجنوب مصر،‮ ‬كان الأهالي يصفون التماثيل المصرية القديمة القائمة في الجبل بالمساخيط،‮ ‬أي أن هذه التماثيل كانت في الأصل بشراً‮ ‬ثم سخطهم الله حجارة بسبب معاصي ارتكبوها،‮ ‬وكان هناك آخرون يقولون إن هذه التماثيل عليها أرصاد،‮ ‬أي حراس من العالم الآخر تحميها وتؤذي من يقترب منها أو يتعرض لها بسوء،‮ ‬هذا امتداد للمعتقد المصري القديم،‮ ‬فتمثال أنوبيس يوضع أمام المقبرة عند المدخل ليحميها،‮ ‬كذلك الرسوم والتعاويذ‮.‬
‮<<<‬
الآن تبدو مصر القديمة في الظاهر كأنها تمت إلي آخرين،‮ ‬بعض المناهج الدراسية تقول بمرحلة فرعونية وأخري قبطية وثالثة إسلامية‮. ‬وفي رأيي هذا مفهوم خاطئ،‮ ‬فالتاريخ المصري واحد،‮ ‬لكن تختلف مراحله،‮ ‬جوهره مستمر في الثقافة العميقة،‮ ‬الدفينة للبشر،‮ ‬صحيح ان تلك الثقافة تغيرت في تلك المراحل،‮ ‬لكنه تغير خارجي لم يمس الصميم،‮ ‬تلك هي الجدلية ولب المشكلة في ثقافة المصريين‮.‬
ثمة مشكلة أخري،‮ ‬فالرؤية العبرانية للمصريين انتقلت إلي المسيحية ثم إلي الإسلام،‮ ‬الفرعون أصبح رمز الطغيان وفقا للنص المقدس،‮ ‬سواء العهد القديم أو القرآن الكريم،‮ ‬في نفس الوقت يشعر المصريون بالفخر لأنهم أحفاد من أبدعوا هذه الفنون كلها،‮ ‬من عمارة ورسم وأدب،‮ ‬ذلك هو التناقض في وعي‮ ‬غالبية المصريين خلال العقود الأخيرة بدءا من السبعينات في القرن الماضي،‮ ‬مع تصاعد التشدد الإسلامي المستند إلي التعاليم الوهابية القادمة من الصحراء،‮ ‬خلال الثورة الوطنية الكبري عام ‮٩١٩١ ‬ضد الاحتلال الإنجليزي لم يشعر المصريون بهذا التناقض،‮ ‬كان ابتعاث التقاليد المصرية القديمة في العمارة،‮ ‬في الرسم،‮ ‬في الابداع الأدبي،‮ ‬ملمحا مهما لحركة النهضة،‮ ‬دائما يعيد المصريون اكتشاف الجذور البعيدة عند تطلعهم إلي النهضة،‮ ‬في المراحل التي كانوا يجهلون فيها تفاصيل تاريخهم القديم كما نجد ذلك في العصر المملوكي،‮ ‬وبالتحديد في العمارة،‮ ‬المساجد المصرية التي شيدت في العصر المملوكي،‮ ‬حتي هزيمة المماليك في مواجهة الأتراك العثمانيين عام ‮٧١٥١ ‬ما هي إلا استعادة لتقاليد المعمار المصري القديم،‮ ‬بعد اكتشاف أسرار اللغة المصرية القديمة علي يدي شامبليون،‮ ‬وبدء وعي المصريين بتفاصيل تاريخهم أصبحت مصر القديمة مصدر إلهام‮ ‬ثري،‮ ‬تأثرت الرؤية سلبيا بتيارين سياسيين،‮ ‬الأول هو القومي العربي أثناء فترة مده في الخمسينات والستينات والذي اعتبر مفكروه مصر الفرعونية نقيضا للفكرة العربية،‮ ‬وفي العقود الأخيرة تتبني الرؤي المعادية بعض التيارات الدينية‮  ‬الإسلامية المتشددة‮. ‬إن وضع المراحل التاريخية لوطن قديم مثل مصر في تعارض مع بعضها البعض لمما يثير الأسي،‮ ‬لكنها خطايا عابرة في تقديري،‮ ‬فلكم مرت رياح هبوب،‮ ‬بعضها مدمر علي النهر والوادي والبشر،‮ ‬غير أن الجوهر ظل مصونا في العمق،‮ ‬نحتاج فقط إلي جهد لنبصره ونرصده،‮ ‬عندئذ نكتشف إنجاز الثقافة المصرية العميقة،‮ ‬الاستمرار مع التغير‮.‬